تُعد رياضة الكريكيت، بإيقاعها الهادئ، من أكثر الرياضات التي تُستمتع بها وسط الحقول الخضراء الريفية في إنجلترا. هذه الرياضة الصيفية التقليدية قد تستغرق يومًا واحدًا أو تمتد إلى مباراة مكثفة تدوم خمسة أيام.


وخلال المباريات، كثيرًا ما يتوقف اللاعبون والمشجعون على حد سواء للاستمتاع باستراحة الغداء أو شاي العصر، يتناولون بعض المأكولات، ويتبادلون الأحاديث الودية والنكات الطريفة. سواءً كانوا يحتمون تحت الخيام من المطر أو يمازحون الخصوم، فإن الكريكيت تُجسد الطابع الإنجليزي بامتياز – أناقة وهدوء.


ورغم أن الكريكيت تُوصف كثيرًا بأنها "لعبة النبلاء"، فإنها قد تكون شديدة التنافس، إذ تصل سرعة الكرة إلى أكثر من 140 كم/ساعة. ومع دخول أنماط اللعب السريعة في العصر الحديث، ازدادت شعبية الكريكيت على مستوى العالم.


تاريخ الكريكيت: لعبة مع الشاي


كما هو الحال في رياضات مثل الصيد والرماية، لطالما اعتُبرت الكريكيت لعبة رجالية ونشاطًا ترفيهيًا للطبقة المتوسطة. على مدى سنوات طويلة، شجعت المدارس الخاصة في إنجلترا على ممارسة هذه الرياضة.


وتعود أصول الكريكيت إلى القرن الثاني عشر، حيث تشير أقدم السجلات إلى عام 1300 تقريبًا، في عهد الملك إدوارد الأول، عندما ورد ذكر لعبة تُدعى "creag".


وفي مكتبة جامعة أكسفورد، توجد لوحة تُظهر شخصًا بملامح رهبانية يرمي كرة باتجاه آخر يحاول ضربها بأداة تشبه المضرب، بينما توجد حفرة خلف الضارب، دون وجود للويكيت.


وفي عام 1598، أظهرت السجلات أن طلاب مدرسة "رويال غرامر" في مدينة غيلدفورد كانوا يمارسون لعبة الكريكيت، وهو أول توثيق للعبة باللغة الإنجليزية.


يبدو أن أصل كلمة "cricket" له جذور متعددة؛ فمن الفرنسية القديمة "criquet" التي تعني العصا الصغيرة، ومن الإنجليزية القديمة "cricc" أو "cryce" التي تعني العَصا أو الهِراوة.


من لعبة أولاد إلى رياضة الرجال


بحلول منتصف القرن السابع عشر وطوال القرن الثامن عشر، تطورت الكريكيت من مجرد لعبة أولاد إلى رياضة للرجال البالغين، وغالبًا ما كانت تُلعب مقابل المال.


قام نادي "سيفين أوكس" للكريكيت في مقاطعة كِنت بتطوير الويكيت ذي القائمين إلى ويكيت ثلاثي القوائم مع عارضتين، وهي الصيغة المستخدمة حتى اليوم.


وفي مقاطعة "ساري"، أُقيمت أول مباراة بهذا التصميم الجديد.


وفي عام 1750، أُسس أول نادٍ للكريكيت في بلدة هامبلدون بمقاطعة هامبشاير. أما نادي "ماريليبون للكريكيت" (MCC) الذي أُسس عام 1787، فقد أصبح أشهر نادٍ للكريكيت في العالم. وفي عام 1788، وضع النادي أول قواعد رسمية لمباريات الكريكيت على مستوى المقاطعات في إنجلترا.


ويشتهر النادي بقواعده الصارمة للعضوية، حيث يتطلب الأمر وجود راعٍ ويستغرق القبول من 10 إلى 20 سنة، إضافة إلى رسوم اشتراك سنوية مرتفعة. ولا يقتصر دور النادي على الرياضة فقط، بل يُعد مركزًا اجتماعيًا للطبقات الراقية. وغالبًا ما يرتدي الأعضاء ربطة العنق المميزة ذات الخطوط الصفراء والحمراء، كرمز للانتماء.


ورغم أن العضوية كانت حكرًا على الرجال في السابق، فإن النساء بات بإمكانهن التقديم الآن.


العصر الجديد للكريكيت: المباريات ذات اليوم الواحد


في عام 1963، أدخلت مقاطعات إنجلترا تعديلًا مهمًا على قواعد الكريكيت، من خلال تحديد عدد معين من "الأوفرز" (الرميات) لكل مباراة. هذا الابتكار أدخل الرياضة في عصر جديد، وجعلها أكثر إثارة وسهولة في المتابعة.


أدى هذا التحول إلى زيادة شعبية الكريكيت، وتم تقديم صيغة "المباراة الدولية ذات اليوم الواحد" (ODI) عام 1971.


وبسرعة، تبنّى "المجلس الدولي للكريكيت" (ICC) هذه الصيغة، وفي عام 1975 أُقيم أول "كأس عالم للكريكيت".


لكن لم تشهد مباريات الكريكيت طويلة الأمد انتعاشًا حقيقيًا إلا في أوائل الألفينات.


الكريكيت حول العالم


رغم أن الكريكيت ليست رياضة أولمبية، فإن تأثيرها واسع في دول الكومنولث. فقد أدخل البريطانيون الكريكيت إلى أستراليا والهند وجنوب أفريقيا ومنطقة الكاريبي، ولا تزال تحظى بشعبية هائلة هناك.


غالبًا ما تُقارن الكريكيت بالبيسبول أو السوفتبول، نظرًا لكونها رياضة تعتمد على الضرب بالكرة، لكن على عكس البيسبول، لا يرتدي لاعبو الكريكيت القفازات، رغم أن الضارب يرتدي وسائل حماية قوية مثل الخوذة والدروع.


صعود أستراليا وانتعاش إنجلترا


هيمنت أستراليا على الكريكيت العالمي لما يقرب من عقدين، ولكن مؤخرًا بدأت إنجلترا تستعيد قوتها. وتتخذ المملكة المتحدة حاليًا خطوات جديدة لزيادة شعبية الكريكيت واستعادة مجدها التاريخي في هذه الرياضة.


الختام: أناقة الكريكيت الخالدة


بفضل تاريخها العريق وسحرها الفريد، لا تزال الكريكيت رياضة تجمع بين الرشاقة والمهارة.


من جذورها الأرستقراطية إلى صيغها الحديثة، تواصل أسر قلوب الجماهير حول العالم.


سواء كنت من عشاق المشاهدة أو من اللاعبين، تقدم الكريكيت تجربة لا مثيل لها، تمزج بين الرياضة والتقاليد والأجواء الهادئة الممتعة.


فلنحتضن هذه الرياضة النبيلة، ولنتشارك معًا أناقتها الخالدة، أليس كذلك؟